——————
“الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون “
كم أذنب الأهل بحق أبنائهم بسبب خلافاتهم الزوجية وكلما تدهورت علاقة الوالدين كلما زاد تأثيرها على الأبناء سلبا من الناحية النفسية حيث يعيش الطفل القلق والتوتر فتعكس تصرفاته ملامح الإحباط المتخفي وراء صمته القسري ويصاحبه هذا الشعور خلال فترة نموه اذا لم تتم معلاجته،
وعندما تتحول المشاكل إلى طقس من الطقوس التي تمارسها العائلة يوميا يسيطر الإهمال والغضب على القرارات المصيرية دون مراعاة الآثار المدمرة التي قد تنتج عنها .
تعالوا معي نتعرف على نموذج سلبي لهذه الخلافات التي وقعت ضحيتها “أمل ” الطفلة المسكينة التي لا ذنب لها سوى أنها ولدت في أسرة افتقدت الدفء منذ بداية تكوينها .
زواج تقليدي للوالدين حيث لم يتمكن احدهما من معرفة الآخر وطباعه فكما جرت العادة في بعض المناطق المتحفظة أن لا تطول فترة الخطوبة كي لا يجر ذلك أحاديث وأقاويل الناس التي يخشاها كل فرد تشرّبت مبادئه الخوف من الثرثرات
ومن البديهي في مثل هذه الظروف أن يكون انعدام العاطفة من المسلمات وبما أن الطلاق كان من الأمور المستبعدة في تلك الفترة الزمنية فكان على الطرفين أن يكملا حياتهما الملتهبة وان أحرقت من فيها .
الجهل والضغوطات النفسية والضائقة المالية التي عانى منها الأب جعلته يصب غضبه على أسرته التي لا حول لها ولا قوة
وجرح الأم النازف ضمدته بالصمت والطاعة والإنجاب لضمان الاستمرارية الزوجية فإنجاب الكثير من الأطفال في مفهومنا الشرقي هو السر المثالي للحفاظ على الزوج وربطه الأبدي بالأسرة ..
وبين الخلافات والمشاحنات المتكررة يوميا ولسنوات عديدة وفي ظل انعدام الوعي أنجبا ستة أطفال تقاربت أعمارهم وزادوا رغم قداسة وجودهم من بؤس تلك العائلة
كانت أمل آخر العنقود وأكثرهم بؤسا فقد أبصرت النور في منزل جديها لأمها بعد خلاف تصاعدت وتيرته حتى غادرت والدتها منزلها الزوجي وهي حامل في شهرها التاسع
كان زوجها من سلالة البشر في التكوين لكنه فعليا لم يرتق لرتبة إنسان ، ترك زوجته تلد طفلتها دون أن يسأل عنها أو عن المولودة لفترة طويلة ولم يقم بأقل واجباته كأب
تدخل الأهل وتمت المصالحة وعادت الأم بنفسية مدمرة إلى حياتها الكئيبة من جديد فهي لم تتخط الأحداث المؤلمة التي رسخت في ذاكرتها ومزقت مشاعرها .
كبرت أمل واخوانها في أجواء خالية من الحب والأمان حتى أصبحت في العمر المناسب لدخول المدرسة ،
وعند إجراء المعاملات لبدء عامها الدراسي الأول كانت الصدمة الكبرى فأمل لا تملك أوراقًا ثبوتية تخولها دخول المدرسة
كم من جريمة ارتكبت بسيف الجهل !!!
والدها ووالدتها كانا غارقين في الفقر والغضب واللامبالة ، وعوضا عن معالجة المرض في بداياته تم تسكينه بدواء الفساد
كيف لا ونحن شعوب اعتادت على خرق القوانين لمراعاة العلاقات العائلية والاجتماعية والمصالح المادية ،
دخلت أمل المدرسة دون أوراق تثبت وجودها وتعلّمت حتى تكلّمت وطالبت بحقها باستمرار وخاب أملها بسيّد القرار لسنين طوال فهو لم يحرك ساكنا ضاربا بعرض الحائط مشاعرها ومواجهاتها الدورية المحرجة لمخلفات هذا الظلم ، وبقيت على هذا المنوال حتى امتحانات الثانوية العامة حيث تقدمت لاجرائها بورقة أبرزتها واحتقرتها كتب عليها ” مكتومة القيد ” فلطالما ظن من قرأها بعيدا عن محيطها بأنها “لقيطة ” فمن اخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم.
لم يُسمح لها بدخول الامتحانات الرسمية فغرقت في البكاء وبالنسبة لفتاة مراهقة تحتاج في هذه المرحلة من عمرها للنصح والإرشاد الا أنها كانت أصلب من الإنهيار ولطالما وجدت بوعيها وذكائها سبلا لتخطي العثرات ولم تؤمن بإنسداد الطرق فقد تعلمت كيفية التعامل مع شؤون الحياة المختلفة ولعل الصدفة أنصفتها في ذلك اليوم حيث كان وزير التربية يقوم بجولته التفقدية على مراكز الامتحانات وعندما رأها ترأف بحالها بعد أن أخبرته قصتها ومعاناتها التي أدمت قلبه فطلب من المسؤولين السماح لها بإجراء الامتحانات ..
تفوقت أمل وأبدعت فالاحزان أحيانًا تصنع الإنسان
وطلب العلم مهما كان شاقا له لذة ومتعة يقدّرها المعذبون قبل غيرهم والعلم لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة ومن لم يتحمل ذل العلم ساعة يتجرع كأس الجهل أبدا..
قد يدفع الجهل في بعض الأحيان إلى الجنوح والاتجاه نحو الخيارات السلبيّة لكن أمل كانت مكافحة وطموحة وأكملت حياتها بين الأفراح والأتراح ولم تستسلم لأنكاد الحياة المتقلبة الأحوال بل صممت أن تحمي نفسها من أوجاس الخوف وكانت ثقتها بالله عميقة وأملها بالغد المشرق يزداد تدريجيا مع الأيام ..
اختارت دراسة القانون لأن الانحلال أضناها اختارت العدل لان الظلم حرمها لذة الطمأنينة والسكينة
لم يرغب الأب بدفع تكاليف الجامعة فالرجعية علّمته أن لا ينفق على الإبنة فمصيرها الزواج ..
مضت ولم تأبه لتخّلفه فهي تدرك أن سلالم النجاح لا تستطيع أن ترتقيها ويديها في جيبها
بحثت عن وظيفة وعملت حتى جمعت قسطها الجامعي فانتسبت الى كلية الحقوق وثابرت رغم العوائق التي واجهتها ولم تدع الفقر يدحض عزيمتها ولا مغريات الحياة تزيح بصرها عن هدفها المنشود فقد انتظرت طويلا على أبواب الحياة الكريمة وبرد الذل ينخر عظامها وها هي تصنع بجهدها مفتاح الفرج ،
كان لديها ترسانة من الإصرار والتحدي جعلتها تتغلب على ضغوطات الحرمان وفكرة الاستسلام
وأخيرا أزهر ربيع حلمها وتخرجت من كلية الحقوق
لكن معركتها لم تنته بعد ..لا بل تجددت ، تخرجت وما زالت ” مكتومة القيد ” ومكتومة الأفراح رغم انجازها الذي يعجز عنه المدللون من الأبناء الذين أفسدتهم الرفاهية وجعلتهم اتكاليين لا يمكنهم القيام بأي عمل وحدهم وقد تأصلت فيهم الخصال السيئة والضارة بأنفسهم وبمجتمعهم فزيادة جرعات الإهتمام المفرط لا تختلف بسلبياتها عن الإهمال والقسوة الزائدة..
وفي مرحلة التدرج لجأت لأحد مكاتب المحاماة المعروفة بجدارتها واسمها اللامع في القضاء وطلبت من رئيسها المساعدة للحصول على حقها الشرعي في حياة كريمة وكان لها ما سألت بعد متابعتها قضيتها بنفسها وبعد اجبار والدها على القيام بالفحوصات الطبية اللازمة كمستندات اساسية لدعواها بالاضافة إلى إفادة الطبيب ومختار البلدة وإفادة المدرسة وشهادة الجامعة ومستندات رسمية لأفراد العائلة تثبت أصلهم وجنسيتهم ،
وبعد أشهر من المتابعة حصلت أمل على صك براءتها من ذنب والديها ..على جواز مرور الى السعادة والشرعية الإنسانية …على منديل تمسح به دمع الطفولة وقهر المراهقة وذل الشباب ..حصلت أمل على هوية يفوح منها عطر الإنتماء للوطن ..وكل رقم فيها سيذكرها بمسيرة نضالها حتى الانتصار ..
ليس هناك بيت يخلو من الخلافات الزوجية بل والمشادات أحيانًا ولكن حذارِ أن يفترس الجهل بصيرتكم وتدفع البراءة ثمن قرارتكم ..أولادكم أمانة عظيمة في أعناقكم ..أحبوهم وأكرموهم ولا تحملوهم وزر أفعالكم .
يتبع ……
(مكتوم القيد : مصطلح شهير في مجتمعنا وهو يعني أن شخصا حرم من هويته لأسباب مختلفة وعلى رغم تعدد الأسباب التي تحول دون انخراط هؤلاء الاشخاص في المجتمع بشكل طبيعي الا ان النتيجة واحدة، وهي انهم لا يملكون أوراقا ثبوتية ولا شخصية قانونية، ويحرمون بالتالي من جميع حقوقهم )