هدى غازي: لعنة الشرق (٥) الفوسفيد المخلّص


————————-
كانت رشا فتاة جميلة تشرق الشمس من ابتسامتها ويتوارى خلف جدائلها ظلام الليل وبريق عينيها يأسر القلوب ..فواحة بالفرح ويتدفق من همسها عطر الكلام لكن عنادها جعلها تفقد ثقة الآخرين وخلق فجوة كبيرة بينها وبين ذويها

تحدّت قوانين العائلة وخرجت عن ضوابطها فتخطت العادات والتقاليد التي تربت عليها مما دفعها للدخول في صدامات متكررة مع الاهل والاصدقاءفلطالما ظنت أنها على صواب دائم وبأن من حولها غارقين في الأخطاء ولم تترك النصائح الموضوعية أثرا يجعلها تدرج آراء الاهل على لائحة قراراتها المصيرية .

التقت رشا بمحمود الابن المدلل والشاب المغترب لأبوين من بلدتها هجرا لبنان منذ فترة طويلة قاصدان لقمة العيش في اميركا الجنوبية وبين عادات الشرق والغرب تشرّب محمود خلل التناقض والاستهتار وعاش حياة اللهو والمرح حاله كحال معظم الشباب الذين ترعرعوا في بلاد الاغتراب وقد أرسله والداه عندما أصبح في سن الزواج إلى لبنان لانتقاء الزوجة العربية التي تناسبه خوفا عليه من نزواته العاطفية ..

لم يكن محمود الشاب المناسب الذي ترضى أن تصاهره معظم العائلات فسمعته قد سبقت وصوله إلى ثرثرات نساء الحي لكن رشا لم تأبه لما سمعته من تحذيرات وأحاديث وفتحت له أبواب قلبها على مصراعيه وعندما تقدم للزواج منها رفض أهلها طلبه خوفا منهم على مصير ابنتهم المتسرعة في اتخاذ القرارات لكن رشا أصرت على قبولها وقلبت حياتهم إلى جحيم حتى قررا ان يتركا لها حرية الاختيار ..
تزوجا في غضون شهر وسافرت معه على كف القدر تمشي وترافقها أحلامها الضبابية بعيشة هنية وبسعادة زوجية وبحب تبرعم على غصن واحد في ربيع يتيم ..

وبين البداية والنهاية حكاية معاناة عاشتها رشا مع الوحدة والتسلط والخيانة والنزوات المتكررة لزوجها الموهوب الذي تفنن بالخداع والأذية
صبرت حتى كلَّ الصبر منها في كربة غربتها وشكواها كانت مذلة فلم ينصفها أصحاب المسؤولية وقد جنت على نفسها براقش …

هدرت كرامتها واغتصب حقها فبدأت تظهر على وجهها وجسدها النحيل علامات الشحوب وعندما وجب الطلاق والانعتاق اتسعت حدود الخلافات وزادت وتيرة العنف فقام محمود بطردها من المنزل وخبأ جواز سفرها ووقف أهله كالمتفرجين ولم يدركوا فداحة ظلمهم الذي نزع من صدرها الراحة والأمان فجلست على مدخل منزلها تذرف دموع الندم والحيرة لساعات حتى رأف بحالها أحد المارة من الجالية العربية فمد لها يد العون واصطحبها إلى منزله حيث يسكن هو وزوجته وأولاده
وبعد جهد جهيد لم يكن الطلاق مستحيلًا وحصلت على جواز سفرها وعادت إلى وطنها مكسورة القلب وجراحها تنزف خيبتها ..

باغتت التوقعات وتخطت صدمتها وبرودة مشاعرها رغم انتزاع حريتها وظروفها المعقدة فالمطلقة ينهشها المجتمع الشرقي بأنياب المغرضين

قمعت تحركاتها والتزمت منزلها حتى خروجها من بيتها كان خلسة في معظم الاوقات وكانت تنتهي زياراتها بالتوبيخ وازدياد القمع من الأهل خوفا من ثرثرات الناس الآفة المعششة في العقلية الشرقية والمتوارثة أبا عن جد والتي غيرت مسار حياة الكثيرين ..

كانت رشا تمضي وقتها طيلة اليوم على سطح المنزل هاربة من الضغوطات الاسرية تراقب المارة من أهل بلدتها حتى أحبت نديم أحد أبناء البلدة الذي كان يراقبها يوميًا ويبادلها الإبتسامات على مر الساعات وقد أحبها هو أيضاً
لكن سطوة القناعات الرجعية والعادات الشرقية حالت بين حبهما حيث رفض أهل نديم هذه العلاقة رفضاً تاماً
رشا لم تتغير ولم تكن تلك الحريصة على المسايرات الاجتماعية وقد كان الغباء العاطفي لديها يفتقد بريق الانخراط مع المجتمع وعندما أقفلت كل الأبواب بوجه هذا الحب أقدما على ارتكاب الخطأ الأكبر زواج “الخطيفة ” وهو ظاهرة كبيرة منتشرة ومتواجدة بكثرة في مجتمعنا بالرغم من التعتيم الكبير عليها كونها قضية أخلاقية تمس بالشرف ومقدسات العائلات ..
هربت مع نديم ابن العائلة الفقيرة الذي لا يمتلك حتى منزلا يأويها وتواريا عن الأنظار لكن العودة إلى البلدة كانت أمرًا محتوما حيث منزل نديم الصغير الذي ضاق بساكنيه فكان يعيش فيه هو ووالداه واخوته الخمسة …

وها هي رشا تدخل مستنقعا جديدا بسوء اختيارها وتسرعها فلم يشفع لهما الحب الذي تبخر على أثر تذمر أهل نديم الدائم منها وكرههم لفعلتها التي جرت العداوات بين العائلتين …

أنجبت من نديم طفلين عاشا طفولة باردة وقد ازدادت حياتها تعقيدا في ظل الحرمان الشديد من الاحتياجات الإنسانية الأساسية فراتب زوجها لم يكن كافيا وكان يتبخر خلال أيام محدودة فتكاثرت آلامها ولم تجد منفذا للراحة ..

لم يدندن الحب لها أغاني الفرح لا بل أكثر من عاهات أيامها ولم تستطع أن تكفن جثث أحزانها فالجنازات تتالت وعقم الفرج مكث في رحم انتظارها وحمل الصبر كان كاذباً فأجهضته ..

داهمتها التعاسة بانهيارات عصبية ألبستها سواد الرؤية حتى جاورت روحها الأموات في مجالس الأحياء..
اشتعال فاحتراق فرماد نثرته من حولها فأعمى بصيرتهم عن استدراك حالتها النفسية وكانت إهانات التقصير تمطر بغزارة فتغرقها في عزلتها واحباطها واكتئابها ولم يكن للمآساة مخرجا حتى بالكلام فلمن تشتكي وعائلتها قد قطعت علاقتها بها !!
ولم تحصد من حياتها الاجتماعية صديقة تزيح ستائر همومها وتساعدها على الوقوف في وجه أفكارها الشيطانية أو تمسح عدسة نظرتها المشوهة للحياة
وعبء الامومة العاجزة لم يجعلها تتراجع عن قرارها المحسوم ذلك الصباح…

ودعت أطفالها الذاهبين إلى المدرسة بعناق طويل وبدمع علق في محاجرها عادت إلى سريرها حيث لجمت عدّاد أنفاسها ساخرة من الحياة بعد أن تناولت حفنة من حبوب فوسفيد الألمنيوم المميت والذي يسبب التهاب في عضلة القلب و تآكلًا مباشرًا للأنسجة وكان قرارها كعادتها لا رجوع فيه وهذه المرة لن ترغم على مواجهة عواقبه …

رحلت رشا الجميلة الى ما وراء هذا الكون بحثا عن السكينة التي سلبها منها القدر طامسة بغيابها الأبدي ذكريات غصات أدمت جفونها وأحرقت خافقها
لم يقصدها الموت بل استدعته وصعدت قطاره بمحض إرادتها كما فعل الكثيرون مؤخرا ممن ضاقت بهم الحياة وافترسهم الجوع والقهر والفقر وطرح عزيمتهم البؤس والأسى .

الاكتئاب سرطان يتغلغل في النفوس المنهكة ويجعل صاحبه حبيس قوقعة الأفكار السوداوية التي تفشت في خلايا مجتمعاتنا وقوانين القمع التي فرضتها التقاليد والعادات على النساء المكبلات بأصفاد الرضوخ دفعت بالنفوس العاجزة إلى الهلاك والانتحار ناهيك عن سياسات التجويع التي حصدت الآلاف من الأرواح فهناك من أحرق جسده بسبب البطالة والضائقة المعيشية وتعذر لقمة العيش كي لا يرى الجوع ينهش أكباد أطفاله وهناك من ودعت أفراحها وأصبحت حياتها أشبه بمقبرة خرساء ففضلت المكوث تحت الثرى..
أزمة عصفت بالضعفاء والأقوياء وذهول شرّد الوعي والإدراك فدفع بهم إلى مفارقة الحياة .
يتبع ….

عن Moussa Moussa

شاهد أيضاً

اكتفاء ذاتي

كان آبائنا يعيشون فترة اكتفاء حيث انهم اعتادو الفقر والبساطه واعتمدوا على الحرث والزرع وتربية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *